بريطانيا العالمية تساعد في هزيمة الإرهاب
ألقى وزير الخارجية بوريس جونسون كلمة حول مكافحة الإرهاب، والجهود التي تبذلها الحكومة البريطانية لهزيمة الإرهاب في أنحاء العالم.
Global Britain is helping to win the struggle against Islamist terror
لدى خوضك صراعا مطولا أثيما وينتهي بتحقيقك النجاح فيه، فلا بدّ عندئذ أن نحتفل – بما يتوجب من تواضع وحذر –بهذا النجاح. وعليه، فإنني ألفت أنظاركم مرة اخرى إلى هزيمة داعش في الرّقّة، والنصر الذي حققه التحالف المؤلف من 74 عضوا – والذي لعبت فيه المملكة المتحدة دوْراً تعتز به.
قبل ثلاث سنوات صعد أبو بكر البغدادي إلى منبر أكبر مساجد الموصل وأقسم بأن “يفتح روما” و”يستولي على العالم”. وخلال إحدى المراحل كان يسيطر على منطقة يسكنها 10 ملايين من الناس الذين عانوا من العيش في ظل ما يمكن تذكّره على أنه واحد من أكثر الأنظمة فساداً في التاريخ.
لقد أساءوا معاملة الأبرياء. وألقوا المثليين من على أسطح المنازل. واستعبدوا النساء والأطفال. واستخدموا ميدان المدينة لصلب وقطع رأس كل من تجرّأ وعارض أعرافهم الأخلاقية التي أصفها أنا بأنها من العصور الوسطى، إن لم يكن في هذه المقارنة إهانة للعصور الوسطى التي تعتبر متحضرة بالمقارنة.
وعندما حان موعد وقفتهم الأخيرة في ملعب كرة القدم في الرّقّة، فقد لا تستغربون كيف أنهم خيّبوا كل التوقعات. فهم لم يقاتلوا كالأسود، أو يموتوا متلفعين بأعلامهم السوداء المشؤومة. بل رفعوا أيديهم وقبلوا بأن يُساقوا إلى خارج الرقة في حافلات بيضاء.
وكانت مفارقةً سارّة في النهاية أن من تغلّب عليهم في إطلاق النار وفي القتال وفي القيادة قوة ضمت عددا كبيرا من الجنديات الكرديات، وهنّ نفس النساء اللواتي كان داعش يعتبر تحرّرهن عادة من العادات الغربية المثيرة للاشمئزاز، وكان معظم المقاتلين الذي ألحقوا الهزيمة بتنظيم داعش هم من المسلمين السّنة – أي نفس الناس الذين زعم داعش بأنه يمثّلهم.
إن من حقنا أن نحتفي بسقوط الرّقة والموصل؛ ذلك لأن 96% مما يسمى “الخلافة” قد زال الآن، ومعها تفاخرهم بتطلعاتهم بأن لهم دولة. والبغدادي اليوم طريد مُلاحق.
لقد ساعدنا في تعطيل الجهاز الذي اجتذب للتنظيم مجنّدين من كل أنحاء العالم، من ليوتن في بريطانيا إلى ماندناو. لم يعد لديهم أرض لإنشاء معسكرات تدريب، ولا سكان مقهورون ينهبونهم ويحصّلون منهم الضرائب.
لا بدّ لنا من تهنئة أنفسنا ولو بقدْر محدود على أننا منعنا جماعة إرهابية من السيطرة على أرض في الشرق الأوسط.
ومع ذلك نعرف أننا لم نحطم داعش؛ لا في العراق ولا في سورية، وبالتأكيد ليس في أنحاء العالم. ربما أننا حطمنا الجهاز مؤقتا، ولكننا نعلم أن العناصر تعيد تجميع صفوفها بشكل خفيّ.
بل إنهم الآن يجمعون صفوفهم في دول حكوماتها ضعيفة. فهم هناك في أفغانستان، وفي ليبيا، وفي الصومال، وفي شمال نيجيريا، وعلى مدى 5 أشهر من هذه السنة احتلت الدولة الإسلامية (كما تُسمى) في الفلبين مدينة مراوي إلى أن طُردت منها.
إنهم قادرون على شنّ العمليات حتى بلدان حكوماتها مستقرّة نسبياً، كما حاولوا في تونس وفي مصر. وقد جاء 100 من المقاتلين الأجانب في سورية من ماليزيا.
ونحن نلحظ أثرهم بالطبع هنا في غرب أوروبا، متمثلا في المتاريس الفولاذية والاسمنتية الموضوعة حول مبانينا العامة، وفي الطوابير المتداخلة يمنة ويسرة في المطارات، وفي الاعتداءات الأخيرة في مانشستر ولندن.
نعلم أنهم لا ينفكون يحاولون التواصل وتحقيق طموحهم التكنولوجي. إنهم يعكفون على إنتاج قنابل جديدة من كل الأنواع، واكتشاف طرق جديدة للتملّص من اكتشافهم. إنهم يطوِّعون أشياء نستخدمها في الحياة اليومية لتكون أسلحة إرهابية.
ويحزنني أن أقول بأنه بات أمراً مألوفا أن نقرأ أنه في مكان ما من قارّتنا يحلو لشخص ما أن يصيح “الله أكبر” وهو يشن اعتداءا على المارّة من الناس. وفي بلدنا، ينفذ جهاز المخابرات الداخلية إم آي 5 وشرطة مكافحة الإرهاب ما يزيد عن 500 عملية – أي بزيادة الثّلث عما كان في العام الماضي.
ومن هنا فإن هذا هو الوقت المناسب لنستمدّ الثقة من نجاحنا في مواجهة داعش؛ ونفكر في الطريقة التي سنواصل بها هذا القتال.
للإجابة عن هذا السؤال – أي كيف ننتصر – لا بدّ لنا من أن نفهم أولا من نقاتل، وليس ماذا نقاتل. ذلك حتى لو أننا تمكنا من اعتقال كل مقاتل في داعش، وحتى لو أن كل الجهاديين في العالم قد سُجِنوا أو أنهم تبخّروا بفعل ضربات الطائرات بدون طيار، فإننا سنكون ما زلنا لم نلحق الهزيمة بالعدو.
هذه ليست حربا ضد دولة تقليدية ذات سيادة، وليس لدى هؤلاء الإرهابيين أي أهداف يمكن بأي شكل التفاوض عليها. إنه ليس صراعا ضد دين، بل ضد فكرة، ضد ايديولوجية محرفة.
من هنا، قد يكون من الأجدى أن نغير الاستعارات والمجازات. فلربما علينا أن نفكر ليس بمحاربة خصم عسكري، بل مرض أو اختلال عقلي – حتى لو كان هذا المجاز غير صحيح تماما. حيث إن مفهوم المرض أو العدوى يعجز عن وصف الوازع الأخلاقي للإرهابيين.
لقد قرروا السير في هذا الطريق؛ وهم وحدهم المسؤولون عن جرائمهم. ربما كان بإمكاننا أن نقول، وكما هو الحال مع باقي أشكال السلوك الجنائي، أن علينا النظر إلى العوامل الاجتماعية والعاطفية التي تتضافر لتدفع أشخاصاً لتكريس أنفسهم لمثل هذه العدميّة الشاملة.
إنني أتفهم أن عبارة “الإرهاب الإسلامي” غير ملائمة. ولو خطر ببالي تعبير آخر أفضل فلسوف أستخدمه. غير أننا بحاجة إلى أن نفهم بالضبط السبب الذي جعل هذا النوع من الإرهاب مرتبطا بالإسلام، وبطريقة يراها 1.5 مليار مسلم مُهينة ومثيرة للغضب.
إن فكرة أن نكسات الدنيا (هزيمة عسكرية، إذلال سياسي، بل حتى تدهور اقتصادي) لا بدَّ وأن تكون دلالة على غضب إلهي هي فكرة موغلة في القِدَم، وموجودة في جميع الديانات تقريبا – ومنها المسيحية. فمنذ آلاف السنين وبنو البشر يفترضون بأن الردّ السليم لا بدّ أن يكون طلب الرِّضى من الله أو الآلهة، من خلال الورع والتقوى.
دعونا نستعرض قصة أغاميمنون: فقد أراد مزيدا من الرياح المواتية لسفنه في أوليس. واعتقد بأنه يُعاقَب على بغْي ارتكبه. فكان أن فعل ما اعتقد أنه الشيء المناسب: قتل ابنته. إن نمط التفكير التكفيري هذا ذاته هو الذي يقنع بعض الناس بالانخراط في حركات يمكن وصفها عموما بالمتزمتة أو الأصولية.
وقد شهدنا خلال 150 سنة الماضية كيف كان ردّ عدد من المفكرين الإسلاميين على ما يروْن أنه إذلال للعالم الإسلامي. وينطبق هذا المنطق نفسه على الفرد إذا أصبح راديكاليا. ذلك لأن العالم يعجّ طبعا بأناس يشعرون بأنهم ليسوا ناجحين، أو ليسوا أقوياء أو أنهم لا يستطيعون التحكم بحياتهم.
عندئذ وبصورة مفاجئة – وبينما يكون هذا الشخص في المسجد أو في السجن أو يتصفح الإنترنت – يعطيه شخص آخر ما يشبه المفتاح النفساني الذي يفتح له كل الأبواب. ويُقال له إن كل خيباته في الحياة سببها رفضه اعتناق أيديولوجية الجهاد.
ويُقال لمثل هذا الشخص إن عليه فقط أن يتحوّل إلى عقيدة التطرف والعنف، وعندئذ سيجد أن كل متاعبه قد زالت وأن حياته ستتغيّر تماماً. وفجأة يتراءى له العالم الذي كان في السابق مسببا لعزله وإخافته عالماً تافهاً وفاسداً، وبحاجة إلى الإصلاح من خلال تطبيق ثورة غضبه الدينية.
هذه العملية ليست فقط سريعة جدا – إذ قورن الجهاد الإسلامي من حيث قوة الإدمان عليه بالكوكايين. ويصعب أيضا الرجوع عنه.
من هنا يتوجب علينا أن نوقف انتشار هذا الداء. علينا أن نواجهه ونستأصله من كل المساحات غير الخاضعة للسيطرة التي ينمو فيها: في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي مواخير الإنترنت الموبوءة، وفي بلدنا نحن حيث يستغل حريات ديموقراطيتنا الليبرالية، وفي أكثر الأماكن اضطرابا وأقلها خضوعا للسيطرة: ألا وهو قلب الإنسان.
تكمن هنا أنظمة إرهابية متشابكة، محلية ودولية، تلوِّث بعضها البعض إلكترونيا. ويمكننا وقف كلتا العجلتين عن الدوران. يمكننا خفض مستوى الخطر بنسبة كبيرة. نعم، بإمكاننا أن ننتصر.
ولكن علينا أن نفهم ليس فقط من نقصد بكلمة العدو. نحتاج إلى فهم من نحن. من نكون “نحن” الذين سوف ننتصر؟
هناك نرجسية غير مجدية في استعمالنا لصيغة الجمع حين نتحدث عن أنفسنا، فأنا أخشى أن ما يُفهم من استخدامنا في غالب الأحيان لكلمة “نحن” بأننا نعني الغرب: وأنها تعني ما يسمى الديموقراطيات الليبرالية المتقدمة في أوروبا وأمريكا – فإذا كان هذا هو ما نقصده بكلمة “نحن”، فإن القضية كلها خاسرة.
أنظروا إلى عدد القتلى في التفجيرات الانتحارية في العراق والصومال، والتي لا تحتل أكثر من فقرة واحدة في صحفنا. من هم الضحايا الرئيسيون في هذا الوباء العالمي؟
الضحايا ليسوا غربيين، رغم ما طرأ من زيادة مؤخرا في الهجمات الإرهابية. لقد ارتفع عدد ضحايا الإرهاب العالمي من 3,361 في عام 2000 إلى 25,673 في عام 2016، والأغلبية الساحقة من هؤلاء الضحايا، ما يعادل 98%، كانوا مسلمين أبرياء يعيشون في دول إسلامية.
وقد شهدنا منذ شهر أكتوبر اثنين من أكثر الهجمات الإرهابية دموية في التاريخ الحديث – في مقديشيو وسيناء – وكان كل القتلى البالغ عددهم 823 من المسلمين؛ في سيناء كان هدف الجريمة مسجداً يعج بمن حضروا لصلاة الجمعة. وكانت مأساة عائلاتهم كمأساة العائلات الثكلى في مانشستر أو لندن – وكان الفاعل هو نفس العدو الذي نواجهه في بريطانيا.
ولكن إذا أردنا أن ننتصر، فإن علينا أن نتخلص من الفكرة القائلة إن السياسة الخارجية الغربية تشكل بصورة أو بأخرى السبب الرئيس للمشكلة. هذا وهم وخطأ عفوي وينطوي على غرور لا يخدم إلا مقولات الجهاديين.
صحيح أننا ارتكبنا أخطاء جسيمة – حتى عندما كانت نوايانا حسنة عموما.
لقد خلُص سير جون تشيلكوت إلى أن “العراق في عام 2009، عندما انسحبت القوات البريطانية، لم يحقق أهداف المملكة المتحدة كما جرى وصفها في يناير 2003. بل كانت أقل بكثير مما يعتبر النجاح الاستراتيجي”. يجب أن يكون هذا منافسا لاستخفاف القرن.
بإزاحتنا صدام حسين، دون وجود أي برنامج واضح لمن يخلفه في الحكم، فإننا لم نساهم في إحداث الفوضى وحسب، بل أرسلنا إشارة مشوشة لجميع العالم الإسلامي.
كان صدام وحشا، قاتلا بالجملة، ولكنه مع ذلك جلس على رأس النظام السياسي العراقي. وبإسقاطه بنقرة من أصابعنا، بدونا وكأننا نحتقر المؤسسات السياسية الوطنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وخلال 15 سنة الأخيرة تعلمنا من واقع تجربتنا شخصيا أن هذه المؤسسات – ومهما كانت عيوبها – يكون تحطيمها أسهل بكثير من إعادة بنائها.
ومن هنا فأنا أقف مع إجماع الرأي بأن الحرب في العراق – خاصة في غياب خطة واضحة – كانت غلطة.
إلا أن تلك الحرب لم تخلق الخطر الإرهابي الإسلامي: بالعكس تماما. إذ يبدو تقريبا أن الناس نسوْا أن مذبحة 9/11 – التي راح ضحيتها 3,000 شخص على يدي أسامة بن لادن – وقعت قبل حرب العراق، وليس بعدها.
والقول، كما يزعم الناس عادة، بأن الإرهاب الذي نراه في شوارع بريطانيا وأمريكا هو شكل من أشكال العقاب على مغامرات ورعونة في الشرق الأوسط، إنّما يتجاهل حقيقة أن هذا الذي يسمونه عقاباً، يحلّ بأناس لا علاقة لهم بتاريخ المنطقة – كالسويديين والبلجيكيين والفنلنديين والرهائن اليابانيين الذين قتلهم داعش.
لا يوجد اتساق أو منطق في هذا التقريع بالغرب. يجب ألا ننجرَّ وراء ألاعيبهم. فالحقيقة التي يمكن قولها هي أن الدول الغربية لم تكن سوى لاعبة صغيرة في صراع متعدد الأطياف بين سلالات ومذاهب وقبائل ومصالح، واستُغلّ فيه التطرف الإسلامي – والإرهاب أيضا في حالات كثيرة – على مدى 30 سنة الماضية لخدمة بعض الغايات السياسية. والواقع أن النهاية تكون عموما هي ذاتها دائما: نجاة أو تعزيز قوة النظام.
غير أن هناك أنماطا عديدة مختلفة من الاستغلال. فهناك مداهنة بسيطة، تغاضت فيها بعض الحكومات – في الماضي على الأقل – عن دعم مالي لمساجد أو مدارس دينية مريبة جدا، وغضّت الطرف عن الخطابات الداعية للكراهية أو العنف، في سعيها لكسب الدعم المحلي، من جماعات محافظة ورجعية مثلا.
وهناك بعد ذلك الوسيلة البارعة للبديل الزائف، حيث تتفنن الأنظمة الحاكمة في ابتكار خيار تقدّمه إلى شعوبها وإلى سائر العالم. وتقول فيه: إما أن يقبلوا بي، بكل ما لدي من عيوب - شرطة سرية متجبّرة، وسجل فظيع بحقوق الإنسان - وإلا فإن الإسلاميين سوف يستولون على الحكم ونعود بذلك إلى العصور الوسطى.
وأحدث الأمثلة الشائنة على هذا البديل الزائف هو بشار الأسد. فقد واظب الأسد منذ بداية الثورة السورية في سنة 2011 على ترسيخ وتعميق المعضلة. وساهم في خلق داعش. حيث أخرج زعماء التنظيم من السجون واشترى منهم النفط. وكان يتجنب عادة، حتى هذه السنة، مقاتلة داعش، مكرّسا أغلب عدوانه الوحشي لسكان سورية المدنيين.
وبعد 6 سنوات من معضلة الاختيار بين أمريْن أحلاهما مرّ، (شوكة مورتون)، و6 سنوات من الذبح، علينا أن نعترف بأن الحيلة قد آتت أكلها كما يبدو.
لم نستطع أبدا الإجابة عن سؤال “من الذي سوف يخلف الأسد”، ذلك لأن التحدي الأول أمامنا كان التخلص من داعش، وإلحاق الهزيمة بالإرهابيين الإسلاميين. وصحيح أننا نحتفل بهزيمة داعش في الرقة، ولكن الأسد تمكن في هذه الأثناء من استعادة معظم الأراضي السورية.
هكذا استُخدم التطرف الإسلامي طوال عقود من الزمن أداة للحفاظ على النفس. فإما أنا أو المجانين، ويسأل النظام السؤال: من تفضلون؟ فيقول العالم، حسنٌ، في هذه الحالة، نفضل سد أنوفنا ونختارك أنت.
في بعض الحالات، ولنكن صريحين هنا، سيكون ترتيب كهذا أفضل من غيره. فبعض الحكومات، دون أن تكون بالضرورة ديموقراطية، تستطيع ضبط الأمور دون الكثير من القمع. ولكن أحيانا يكون غطاء قدر الطهي بالبخار مُحكما جدا بحيث يبدأ تراكم الامتعاض، ويصبح من الصعب التمييز بين حملة سياسية للمطالبة بالحرية وبين حملة للسيطرة الإسلامية.
وبهذا ينتهي بنا المطاف إلى وضع خاسر في الحالتيْن. فإذا كانت هناك دولة تسودها الفوضى، فإنها ستتحول إلى مستنبت للإرهاب. وإذا كانت الدولة قوية ولكنها قمعية، فستكون عندئذ هي أيضا مستنبتا محتملا للإرهاب.
وهناك أخيرا نهج الاستغلال، وهو أخبث من البديل الزائف. وأعني بذلك “الدفاع المتقدم”، حيث تقوم حكومة أو أعوانها سراً بدعم جماعات إرهابية في الخارج: إما لإضعاف جيران تلك الحكومة، أو لتبديد أي خطر من أولئك الجيران – سواء كان حقيقيا أو متخيَّلا، أو لتصدير المشكلة الجهادية لديها إلى خارج حدودها.
أو قد يكون هدفها، وهذا أشدّها تدميرا، هو المشاركة في حملة إقليمية لكسب النفوذ عن طريق استغلال نقاط ضعف الدول، ومن خلال تشجيع الميليشيات المتطرفة أو شبه المتطرفة لإرغام دول أخرى على الرد.
ومهما كانت نقاط الصواب أو الخطأ في هذه الصراعات، فإنه لا يمكن المجادلة بصورة معقولة بأنها خطأ الغرب، ناهيك عن القول إن قوى غربية هي من يحركها الآن. بل على العكس من ذلك، يمكن المجادلة، وبشكل أكثر إقناعاً بكثير، بأن المشاكل التي نشهدها اليوم قد تفاقمت ليس نتيجة لتدخل الغرب فيها بقدر ما هي نتيجة لنأي الغرب بنفسه عنها.
فقد طالبنا الأسد بالرحيل. وحدّدنا الخطوط الحمراء لما يمكن أن نقبل به في معاملته للشعب السوري؛ وبعد ذلك لم نفعل شيئا حيالها. كنا حازمين بالنسبة للغاية، ولم نتمكن من الحزم بالنسبة للوسيلة – وبالتالي تركنا الساحة مفتوحة على مصراعيها لروسيا وإيران.
أخشى أن نكون مضطرين الآن إلى التكيّف مع الواقع، ولكننا لن نغادر الساحة. علينا، بشكل جماعي، أن نعيد إدخال أنفسنا في العملية لأن المال الغربي هو الذي سيعيد بناء سورية في نهاية المطاف، وذلك لن يتحقق إلا في إطار انتقال سياسي بعيداً عن نظام الأسد، وحيث يُسمح لأبناء الشعب السوري – بمن فيهم 11 أو 12 مليون سوري فروا من سورية – بالتصويت على مستقبل بلادهم في انتخابات تخضع لمراقبة الأمم المتحدة.
كما يمكننا، بل إن علينا، أن نفعل المزيد لحل الصراع في اليمن، حيث تخيم على البلاد ظلال كارثة إنسانية، وحيث المدن السعودية تواجه حاليا رُعب هجمات الحوثيين الصاروخية.
ولدينا الفرصة لجمع الفصائل في ليبيا التي يجب أن تنتهز هذه اللحظة وتضع خلافاتها جانبا لصالح ذاك البلد.
وقد قامت المملكة المتحدة بدور مهم في توحيد العالم حول خطة مبعوث الأمم المتحدة، غسان سلامه.
إننا بحاجة إلى مشاركة أكثر وليس أقل، ذلك لأننا إذا نظرنا إلى ما يجري من أحداث منذ عام 2013، حين قرر البريطانيون والأمريكيون عدم التدخل في سورية حتى بعد أن استخدم الأسد أسلحة كيميائية، فلا يمكن القول بأننا نجحنا في عزل أنفسنا عن المنطقة.
بل العكس هو الصحيح، فقد داهم أوروبا طوفان عاصف ومأساوي من المهاجرين من سورية. وما زلنا نرى موجات هائلة من المهاجرين تتدفق عبر ليبيا، ويظهر على أي حال أن وتيرة الإرهاب المحلي قد ازدادت.
لا يمكن لنا وضع خط ماجينو في البحر الأبيض المتوسط. ولا يمكننا إحكام إغلاق كل منافذ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتريث 50 عاما ريثما يرتبوا أوضاعهم ويحلوا مشاكلهم.
فبذلك سوف تتفاقم المشاكل سوءاً، ليس فقط بالنسبة للدول الإسلامية الواقعة على الخط الأمامي من الصراع، ولكن بالنسبة لنا نحن أيضا في غرب أوروبا.
وعلاوة على ذلك، علينا ألا نخاف. إن أسهل طريقة لخسارة حرب على الإرهاب هي الشعور بالخوف. لا يمكننا أن ندعهم يغيّرون طريقة حياتنا – بشكل يتجاوز ما هو ضروري للغاية. وعلينا ألا نقلل من شأن الخطر الذي نواجهه، ولا أن نبالغ فيه.
ومهما كانت حيثياته الأخرى، فإن الإرهاب الإسلامي ليس بذاك الخطر الوجودي على بريطانيا.
إنه بلاء ومرض وداء، غير أننا نستطيع معالجته. ذلك أنه على الرغم مما يُزعم حول قوته الإدمانية الفورية، فإن الواقع هو أن أقلية ضئيلة جدا من الناس هم الذين سيتأثرون بحماقاته الطنانة.
إن كل من ذهب إلى الرّقة فعلا اكتشف أن الأوضاع فيها كانت مريرة وغير صحية وميؤوسا منها. وتبيّن أن هناك إقبالا محدودا للغاية على طريقة العيش تلك.
بإمكاننا أن نهزم هذا البلاء في بلدنا وخارجه؛ نستطيع وقف عجلتي الترس كلتيهما في الحال.
فنحن نحذف ما لهم من مواد فيديو على الإنترنت. وبفضل جهود رئيسة الوزراء وجهود وزيرة الخارجية آمبر ردْ، بدأنا نشهد مزيدا من التعاون من جانب شركات الإنترنت، حيث حذفت مئات الآلاف من المواد.
وسوف نواصل عمل برنامج المنع، الذي يهدف للتعرف على الأشخاص الضعفاء وحمايتهم من الانجرار وراء التطرف، وقد حقق برنامج المنع نصيبه من النجاح – رغم الذامّين له.
وفي الوقت ذاته، نقوم نحن في المملكة المتحدة، بريطانيا العالمية، بتقديم المساعدة لعكس انتشار هذا المرض في الخارج. وحين يكون في أخطر وأصعب أشكاله، ذلك يعني التدخل الجراحي. هذا يعني أحيانا اللجوء إلى عمل عسكري من النوع الذي اتخذناه في أجواء الرقة والموصل، حيث كانت المملكة المتحدة من بين أكبر المساهمين في حملة القصف الجوي الناجحة، وكانت الثانية بعد الولايات المتحدة.
وخلافا لبعض ما سمعتموه من أقاويل في الفترة الأخيرة، أستطيع أن أؤكد لكم بأن هناك بريطانيين وبريطانيات يعرضون حياتهم للخطر يوميا في أنحاء العالم لتفكيك شبكات الإرهاب، وكشف وإحباط ما يفعله الإرهابيون، وتقديمهم للعدالة.
وهم يفعلون ذلك ليس لصالح الشعب البريطاني فقط، بل لأجل الجميع. إنهم ينفذون ما وصفته رئيسة الوزراء وبكل حق “الالتزام غير المشروط للشعب البريطاني” تجاه أمن أصدقائنا الأوروبيين – ليس في هذه القارة وحسب، بل في غيرها أيضا. لدينا الأفضل في العالم – وسيبقون حلفاءنا على المدى الطويل.
من حق الشعب أن يشعر باعتزاز بالغ بما يبذله بلدنا من جهود في مناطق الخطر وفي منابت الإرهاب. ولقد اطلعت بنفسي على قوات بريطانية وهي تدرب نيجيريين على التصدي لحمقى بوكو حرام. وشاهدت كيف نساعد الليبيين على مواجهة تجار البشر ومهربي الأسلحة، ووقف استعادة الإرهابيين لموطئ قدم لهم في سرت.
لكن لا يمكننا تحقيق النصر إلى حين تحصين جميع السكان ضد الفيروس، وإلى حين لا يعود العالم الإسلامي عُرضة للإصابة بالسرطان. هذا النضال لن ينتهي إلا عندما نتمكن من وضع حد للاستغلال السياسي للتطرف والإرهاب في هذا القوس الهائل من الأراضي، من جنوب آسيا إلى الشرق الأوسط، وإنهاء المنطق الخبيث للبديل الزائف.
نحن – وحين أقول “نحن” لا أعني نحن في الغرب فقط، بل العالم الإسلامي كله الذي سيكون الرابح عندما يتوفر خيار ثالث قوي وواضح: لا استبداد وقمع حكومات غير ديموقراطية، ولا فوضى وتخلف أنظمة إسلامية، بل إمكانية حقيقية وقابلة للتنفيذ لمجتمعات تعددية وكريمة ومتسامحة تتيح المجال لحرية التعبير ولعمل منظمات غير حكومية مستقلة.
جميعنا يفهم أسباب نُدرة وصعوبة تحقيق هذا البديل الثالث. حيث تفتقر الكثير من الدول الإسلامية لوجود أحزاب سياسية علمانية، وغالبا ما يكون الأقوى والأكثر فاعلية وحنكة سياسية من بين المتنافسين على المراكز السياسية هم الإسلاميون.
والأكثر فعالية من بينم جماعة الإخوان المسلمين. يجب أن نفتح أعيننا بوضوح بشأن هذه الجماعة. فهي تُظهر نفسها بطرق مختلفة في أماكن مختلفة.
لا يمكن الإنكار بأن أحزاب الإخوان المسلمين تمثل قطاعا من الرأي العام، إن لم نقل التيار العارم: ففي بعض البلدان لهم مقاعد في البرلمان؛ وفي تونس كانوا جزءا من حكومة منتخبة.
ونحن هنا في المملكة المتحدة تلقينا التماسات من حكومات صديقة في الشرق الأوسط تود منا أن نحظر عمل هذه الجماعة. وفي عام 2015، وبعد تفكير طويل، قررت الحكومة أن الإخوان المسلمين جماعة لا تنطبق عليها الحدود الدنيا للجماعات المحظورة.
لكن من الواضح جدا أنه من الخطأ أن يستغل الإسلاميون الحريات هنا في المملكة المتحدة – حريات التعبير والتجمع – التي يقمعها أتباعهم في الخارج. ويظل من الواضح تماما أن بعض أتباع الإخوان المسلمين مستعدون لغض الطرف عن الإرهاب.
وقد كان من المشين عندما ذهب البابا بزيارة إلى مصر، أن وصفه الإخوان المسلمون على أنه “بابا الإرهاب”، واتهموا قوات الأمن المصرية التي كلفت بحراسته بأنها “ميليشيات مسيحية”. كما أنهم سعوا مرارا وتكرارا إلى التستر على جرائم داعش. وحتى بعد أن ادعى داعش المسؤولية عن الهجوم على كاثدرائية القديس مارك في الاسكندرية، في أحد الشعانين، أنحى ناطق باسم الإخوان المسلمين باللوم على حكومة السيسي.
لا بدّ لنا طبعا مواجهة حكومة مصر عندما تكون مستويات حقوق الإنسان وحكم القانون فيها أدنى مما نص عليه الدستور المصري – وعندما تقمع المجتمع المفتوح الذي تحتاج إليه مصر حتى تنجح – غير أن هذا ليس ذريعة لإلقاء الخطب السامة التي نسمعها من زعماء الإخوان المسلمين. إنهم يبرئون الجُناة الحقيقيين ويشجعون الإرهاب باختلاقهم ادعاءات مبالغ بها حول الحكومة المصرية.
وهذا واحدٌ من الأسباب التي جعلت حكومتنا تفرض رقابة أكبر على جماعة الإخوان المسلمين: على طلباتهم للحصول على تأشيرات الدخول، وعلى نشاطات جمعياتهم الخيرية، وعلى روابطهم الدولية.
ولتحقيق وجود ذاك البديل الثالث - ليس الاستبداد المعادي للديموقراطية، ولا الإسلاميون - بل البديل التعددي والمتسامح، نحتاج لتكثيف جهودنا الراهنة – تطوير برامج المساعدات التي تقود بريطانيا ووزارة التنمية الدولية العالم فيها.
فنحن نقدم المساعدة من خلال دعم جماعات حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية، ونساعد قبل كل شيء في تغيير واحد من أكثر الموازين المختلّة تدميرا، واحد من أكبر العوائق أمام التقدم الاجتماعي والاقتصادي: القمع الثقافي والفكري للنساء.
إنه خبر رائع أن النساء سوف يستطعن أخيرا قيادة السيارة في المملكة العربية السعودية – حيث تشكل النساء الأغلبية من طلبة الجامعات – والعالم يشجع برنامج الإصلاح الجريء هذا. لكن ثلث النساء المصريات تقريبا لا يستطعن القراءة. وفي باكستان تبلغ نسبة الأمّية بين النساء البالغات 60%.
ولا يقتصر الحرمان من التمكين الفكري على النساء. فهناك حاليا جامعة واحدة فقط في العالم الإسلامي تحتل مرتبة بين أفضل 200 جامعة في العالم.
تصوروا الفرق لو أن تلك الجامعات بدأت بالانطلاق، بروح من الحرية الأكاديمية. تصوروا الاعتزاز والثقة حين تبدأ هذه الجامعات في القاهرة وفي دمشق وفي بغداد وفي تونس بالارتقاء على السلّم العالمي لتتبوأ مجددا مواقع التميز الفكري التي احتلتها هذه المدن في العصور الوسطى. فالمهم في نهاية الأمر في هذا الصدد هو الإيمان والثقة بالنفس، ليس في الجامعات فقط بل في كل المعاهد الوطنية.
إن واحدا من الذين اعتبرهم قدوة لي هو ابن خلدون، المفكر التونسي في القرن الرابع عشر. فقد كان مؤرخا ومفكرا اقتصاديا – وقد أظهر أن الضرائب المنخفضة تؤدي إلى ريع عالٍ، قبل آرثر لافر بزمن طويل - إنه واحد من مؤسسي علم الاجتماع.
كان ابن خلدون هو من وصف ما يُطلق عليه “العصبيّة”، أي الولاء التام لمجموعة أو قبيلة أو طائفة أو حركة ترفع عائلة او سلالة إلى سدّة الحكم. وبيّن أيضا كيف أن هذا الولاء انهار المرة تلو المرة، ما أدى إلى إطاحة السلالة الحاكمة – عادة عن طريق العنف – لصالح مجموعة أخرى.
ولهذا السبب يقول صديقي أحمد ابو الغيط، أمين عام جامعة الدول العربية، أن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في عدم وجود القدْر الكافي من المشاعر القومية.
إلا أن القومية ليست فكرة مرغوبة حاليا في بعض المنتديات. ولكن قد تكون لها قيمة هائلة. فإذا تحلى الناس بمشاعر الولاء والواجب تجاه بلدهم، وتجاه مؤسساتهم، فإن هذه المؤسسات سوف تستمر وسوف تساعد في تعزيز المساواة والنزاهة والاحترام في المجتمع، ذلك لأنها هي التي تحرّك الولاء الذي يتجاوز الأسس الأنانية الضيقة للعصبية.
ومن هذا المنطلق تسعى بريطانيا في كل مكان لمساعدة الدول على تطوير مؤسساتها الوطنية الخاصة بها: قضاء مستقل وجيش، ومؤسسات تعليمية وطنية فخورة بذاتها، ومحطة وطنية للبث وصحفيون مستقلون، وسلطة تشريعية تحمي سيادة الشعب.
والأهم من هذا كله، تحتاج القومية لمن يعرض تلك المشاعر الوطنية العامة، ويضع أدبيات نجاح يحتضن الجميع، ويوحّد ما بين الناس - شيعةً وسنّة - في نطاق مشروع يسمو فوق الطائفة والقبيلة والطبقة الاجتماعية.
إننا بحاجة إلى مدرسة جديدة من القادة، من النساء ومن الرجال، والمملكة المتحدة بطبيعة الحال يمكنها تقديم المساعدة - وهي تقدمها فعلا - في كل عام لمئات المبتعثين من خلال بعثات تشيفننغ والكومونولث. وعلينا ألا ننسى أن من بين مجموعة الملوك والملكات ورؤساء الدول ورؤساء الحكومات، هناك واحد من كل سبعة تلقوا تعليمهم في هذا البلد. قوتنا الناعمة تجمع ما بين أموال التنمية والخبرات التي يمكن أن تساهم في إحداث التغير الاجتماعي والتعليمي والسياسي الذي سيحصّن الشعوب ضد الإرهاب الإسلامي.
وانظروا إلى واقع القوة العسكرية للملكة المتحدة: ثاني أكبر ميزانية دفاعية في حلف الأطلسي، وواحدة من الدول القليلة القادرة على نشر قوة جوية على بعد يزيد عن 7,000 ميل خارج حدودها.
أنظروا إلى حقيقة الأمر لتعرفوا أننا لم نتراجع عن دورنا في العالم. على العكس من ذلك، فنحن نتعلم ما كلّفه تراجعنا في الماضي. السياسة البريطانية ليست مشكلة، إنها جزء من الحل.
وفوق كل اعتبار، سوف ننتصر حين نفهم بأن “نحن” تعني ليس فقط نحن في الغرب، بل مئات ملايين المسلمين في أنحاء العالم الذين يشاطروننا نفس الآمال والأحلام، والذين لديهم نفس الهواجس والأهداف لعائلاتهم، مثلنا جميعنا، والذين يتواصلون مثلنا مع العالم بكل ما فيه من بهجة وإمكانات، والذين هم عازمون مثلنا على هزيمة هذا الطاعون.
معاً يمكننا هزيمته، وهذا ما سوف نحققه.